فصل: فصل في مسائل (متفرقة من القضاء):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.فصل في مسائل [متفرقة من القضاء]:

جمع مسألة: وهي كما في المحلى مطلوب خبري يبرهن عليه في ذلك العلم (من القضاء) من تلك المسائل قوله:
وَلَيْسَ بالجَائِزِ لِلقاضي إذَا ** لَمْ يَبْدُ وَجْهُ الحُكْمِ أَنْ يُنَفِّذَا

(وليس بالجائز للقاضي إذا. لم يبد) يظهر (وجه الحكم) كنهه وحقيقته (أن ينفذا) الحكم على أحد الخصمين لأن الحكم مع عدم تبين وجهه حدس وتخمين، وهو مما ينقض فيه حكم الحاكم. ولو وافق الصواب في ظاهره كما في ابن شاس وغيره، وحينئذ فإن لم يبين وجهه من جهة عدم تصوره كلام الخصمين أمرهما بالإعادة ليفهم عنهما صراحة لا تلويحاً. قال عياض عند قولها: إذا أدلى الخصمان بحجتيهما، وفهم القاضي عنهما الخ ما نصه: مراده بفهم القاضي عنهما تحققه ما سمع منهما دون احتمال لا أنه فهم من معرض كلامهما ولحن خطابهما ليس هذا مما تقام الأحكام به. اهـ.
ونحوه في المعيار عن المازري وعليه عول في اللامية حيث قال:
وفكرك فرغ واطلب النص وافهمن ** فبعد حصول الفهم قطعاً لتفصلا

وسيأتي عند قول الناظم وقول سحنون به اليوم العمل الخ: أن القاضي لا يحكم بما سمعه من أحد الخصمين في مجلسه دون إشهاد عليه، وإذا كان كذلك فكيف يحكم بما فهمه عنهما؟ قال ابن محرز: ما فهمه عنهما يقول مقام ما سمعه، والخلاف جار على جواز الشهادة بالفهم، وثالثها أن يبين شهادته بالفهم لا بالتصريح ابن ناجي والعمل على قبولها قال: وبها حكم ابن عبد السلام في مال معتبر. اهـ.
ونقل الخلاف المذكور الشارح في فصل الإعذار وقال بعده ما حاصله: إنه لا يبعد أن يفرق بين الحكم والشهادة فإن الضرورة تدعو إلى الشهادة بالفهم ولا ضرورة تدعو إلى إنفاذ الحكم دون تحقيق الفهم على الخصمين. اهـ.
قلت: وهو ظاهر ولاسيما على ما يأتي في البيت المذكور. نعم يكون شاهداً بما فهمه عنهما على القول بجوازها بالفهم والله أعلم. وإن لم يبد لكونه لم يقف على أصل النازلة في كتاب ولا سنة ولا غير ذلك أو شك هل هي من أصل كذا أو أصل كذا أو تجاذبها أصلان ولم يترجح أحدهما؟ شاور أهل العلم في هذه الأوجه الثلاثة أو صرفهما إلى من هو أعلم منه وجوباً فإن بقي الإشكال على حاله بعد المشورة أو لم يجد من يشاوره فهو قوله:
والصُّلْحُ يَسْتَدْعِي لهُ إنْ أشْكَلاَ ** حُكْم وإنْ تَعَيَّنَ الحَقُّ فَلاَ

(والصلح يستدعي له إن أشكلا. حكم) أي دام إشكاله بعد المشهورة، وأمكن الصلح فيه لا فيما لا يمكن كطلاق. وقيل: إذا تجاذب النازلة أصلان ولم يترجح أحدهما عنده ولا عند غيره من المشاورين تخيّر في الحكم بأيهما شاء قياساً على تعارض الحديثين دون تاريخ (وإن تعين الحق) ولو بمشورة أو سؤال (فلا) يدعو إليه (خ) ولا يدعو للصلح إن ظهر وجهه أي لأنه لا يخلو عن حطيطة لبعض الحق، البرزلي: فإن جبرهما على الصلح حينئذ فهو جرحة فيه. قال مالك: ولا أرى للوالي أي بعد تبين الحق أن يلح على أحد الخصمين أو يعرض عن خصومته لأجل أن يصالح. اهـ.
فإن دعا في الغرض المذكور فلابد أن يبين لصاحب الحق أن القضاء أوجب له حقه وإلاَّ فلا يلزمه الصلح وله القيام لأن القاضي قد دلس عليه وجار والقول قوله في عدم البيان كما يفهم من جواب لابن لب نقله اليزناسي في عيوب الزوجين. وقال عقبه: إن بعض القضاة يحكم بالجور أو الجهل فيظن المحكوم عليه بجهله أو لعدم الناصر للحق أن ذلك لازم له فيصالح أو يرضى باليمين أو يلتزم الأداء ونحو ذلك، وهو في ذلك كله مضطر مغرور بحكم القاضي فإذا سأل أو وجد من ينصره وأعيد النظر يقول الناظر فيها: إنك رضيت اليمين أو صالحت أو التزمت ونحو ذلك مما يسقط حقه قال: وكنت أستعظم ذلك وأتمنى الاطلاع فيه على نص حتى وقفت على هذا الجواب يعني جواب ابن لب المتضمن لعدم لزوم شيء من ذلك. اهـ.
قلت: وهذا مفهوم من قول (خ) وغيره فلا يحل لظالم.
تنبيهان:
الأول: إذا شهد العالم في شيء عند القاضي فأعياه الحكم فيه فلا يستشيره فيما شهد فيه قاله سحنون أي لأنه يتهم في فتواه بما يمضي شهادته، وقيل: إنه لا بأس باستشارته في ذلك وفي أقضية المعيار أن الخصم إذا طلب إحضار أهل العلم لأجل الحكم عليه أو له فليس للخصم فيه مدخل، وإنما ذلك إلى القاضي قال: وللقاضي أن يمتنع من الحكم إن رأى دخول ضرر عليه بسببه.
الثاني: إذا كان القاضي عدلاً في أحواله بصيراً في قضائه فلا يقبل الأمير شكوى من شكاه ولا يجلس الفقهاء للنظر في أحكامه، وذلك خطأ منه إن فعله. ومن الفقهاء، إن تابعوه على ذلك وإن كان عنده متهماً أو جاهلاً فليعزله، فإن جهل الأمير فأجلس الفقهاء للنظر في أحكام العدل وجهلوهم أيضاً أو أكرهوا ففسخوا أحكامه أو بعضها، فلمن تولى بعد ذلك النظر فيمضي ما كان صواباً موافقاً للمشهور أو المعمول به وينقض ما عداه إن كان حكم القاضي الأول أو الفقهاء وإن أمرهم بتصفح أحكام المتهم جاز لهم ونقضوا ما ليس بصواب، فإن اختلف الفقهاء فلا ينظر إلى قول أكثرهم ولكن ينظر في وجه أحكام الاختلاف فما رآه صواباً قضى به، وكذا القاضي إذا اختلف عليه المشاورون. ابن عبد البر في كافيه: ولا يجوز له أن يشاور وهو جاهل لا يميز الحق من الباطل لأنه إذا أشير عليه وهو جاهل بحكم لم يعلم هل حكم بحق أو باطل. اهـ.
ونقله ابن سلمون وغيره، وهذا في العامي الصرف كما تقدم أول الباب، وإلى ذلك كله أشار (خ) بقوله: ونبذ حكم جائر أو جاهل لم يشاور أي: ولو وافق كل منهما الحق في ظاهر الأمر ولم تعلم صحة الباطن، فإن ثبت بالبينة صحة باطنه فلا ينقض وإلاّ تعقب وأمضى غير الجور ولا يتعقب حكم العدل العالم قال في المعيار عن ابن الحاج: والذي يشاور من أهل العلم العابد الخير الدين الورع العالم بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وبأحكام من مضى العارف باللغة ومعاني الكلام الموثوق بدينه لا يميل إلى هوى ولا طمع، وقال قبل ذلك: وما أفتى مالك حتى استفتاه أربعون محنكاً، والتحنك اللثام تحت الحنك لأنه شعار العلماء في القديم.
ما لَمْ يَخف بِنافِذِ الأحْكامِ ** فِتْنَةً أو شَحْناً أُولِي الأرْحام

(ما لم يخف بنافذ الأحكام). أي بتنفيذها (فتنة) بين الخصمين من قتل ونحوه، فيجب حينئذ الأمر بالصلح ولو تبين الحق لأحدهما قاله اللخمي (أو شحنا) بالمد وقصره ضرورة أي العداوة والبغضاء.
(أولي الأرحام) أو أولي الفضل فيندب الأمر بالصلح في هذين ولا يجب لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رددوا الحكم بين ذوي الأرحام حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث الضغائن وأولو الفضل كذي الرحم، فقد ترافع إلى سحنون رجلان من أهل العلم فأبى أن يسمع منهما وقال لهما: استرا على أنفسكما ولا تطلعاني على ما ستره الله عليكما. اللخميّ: والصلح بين الأقارب حق وإن تبين لأحدهما أو لهما وعليه اقتصر شراح المتن، ثُمَّ لا ينبغي أن يرددهم أكثر من مرتين إن طمع في الصلح بينهما كما في التبصرة وابن سلمون قالا: وعن بعضهم أن قول عمر رضي الله عنه: رددوا الحكم محمول على ما إذا لم يتبين الحق لأحدهما، وإلاَّ فلا ينبغي عدم إنفاذه، وقول (ق) عن ابن حجر استحب الجمهور من غير المالكية للحاكم أن يشير بالصلح أي بين الأقارب والأرحام وغيرهما، وإن ظهرا الحق إلخ.
معناه والله أعلم بعد أن يبين لمن وجب له الحق أن الحق له، وإلاَّ فيمنع لأنه مدلس بكتمانه ظهور الحق لربه معين على أكل الأموال بالباطل، ولا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس ابن عات: إنما يجوز له أن يأمر بالصلح إذا تقاربت الحجتان بين الخصمين غير أن أحدهما ألحن بحجته من الآخر أو تكون الدعوى في أمور تشابهت وتقادمت، وأما إن تبين الحق فلا يسعه إلا فصل القضاء.
وَخَصْم إنْ يَعْجِزْ عن الْقاءِ الحُجَجْ ** لمُوجِبٍ لُقِّنَها ولا حَرَج

(وخصم) طالباً كان أو مطلوباً (أن يعجز عن إلقاء الحجج) أي بثها وتبيينها للقاضي (لموجب) من غفلة أو بله أو دهش (لقنها) بالبناء للمفعول خبر عن قوله: خصم وسوغ الابتداء به وقوع الشرط بعده لأنه وصف في المعنى، والضمير المنصوب مفعول ثان، والمفعول الأوّل ضمير يعود على الخصم. أي: لقن القاضي الخصم إياها على المشهور خلافاً لسحنون. قال في التبصرة: وصورة ذلك أن يقول للخصم: يلزمك على قولك كذا وكذا، فيفهم خصمه حجته ولا يقول لمن له المنفعة قل له كذا. ابن عبد الحكم: لا بأس أن يلقنه حجة لا يعرفها. ابن الماجشون: ينبغي للقاضي تنبيه كل خصم على تقييد ما ينتفع به من قول خصمه إن غفل (ولا حرج) عليه في التلقين المذكور، بل ذكر ابن يونس في ذلك حديثاً:
من ثبَّت غبياً في خصومة حتى يثبتها ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام. اهـ.
وقد يقال: إن التلقين واجب إذا كان الخصم جاهلاً ضعيفاً عنها هذا هو الظاهر، وإلاَّ فكيف يحكم عليه بحجة صاحبه وحجته صحيحة إلا أنه لضعف عقله لم يبينها قال ابن رحال (خ) فإن أقر فله الإشهاد عليه وللحاكم تنبيهه عليه الخ:
ابن عرفة: فإذا ظن القاضي أن المعذور إليه يجهل ما يسقط عنه الحجة نبهه الحاكم على ما يسقطها. اهـ.
نعم يمتنع على القاضي وغيره تلقين الفجور وهو جرحة فيمن فعله فقيهاً كان أو غيره، ويضرب على يديه ويشهر في المجالس، وقد فعله بعض قضاة قرطبة لكبير من الفقهاء بمشورة أهل العلم وليس منه قول المفتي لمعلق الثلاث مثلاً خالعها قبل الفعل ولك مراجعتها بعده ولا يلزمك إلا واحدة كما أشار له (خ) بقوله: فلو فعلت المحلوف عليه حال بينونتها لم يلزم إلخ.
لأن هذا ومثله ليس من الفجور. وفي (ق) عن ابن علوان أنه قال لامرأة عسر عليها التخلص من زوجها الذي أساء عشرتها: ادعي عليه أن بداخل دبره برصاً فادعت ذلك فحكم بأن ينظر إلى ذلك المحل، فلما رأى زوجها ذلك طلقها البرزلي: وهذا التحيل إن ثبت عنده أنها مظلومة فالفتوى به سائغة وإلاَّ فهو من تلقين الخصم القادح في العدالة.
والحاصل إن علم منه المفتي قصد التحيل للفجور فإفتاؤه بما يوصله إليها وتنبيهه عليها من التلقين الممنوع وإن لم يعلم قصده أصلاً أما إن كان قصده إلى رفع الظلم عنه أو إلى الخروج من ورطة يمين وقع فيها فالإفتاء مشروع أو واجب لأن تركه من الكتمان بل في ضيح:
إن القاضي يعلمه بالتجريح إن كان ممن يجهله وسواء كان ذلك قبل الخصام فيما فيه خصام أو بعده فقول الشيخ مس رحمه الله: ما يفعله المفتون اليوم من الإفتاء قبل الخصام إنما هو من التلقين الممنوع لأنه يستفتي لينظر هل الحق له أو عليه فيحتال على إبطاله إلخ.
صحيح إن علم المفتي بقصده للتحيل المذكور والله أعلم.
وقوله قبل ذلك الإفتاء إنما كان في الصدر الأول بعد تسجيل القاضي الحكم إلخ.
مبني على أن الإعذار لا يكون إلاَّ بعد الحكم، والمشهور أنه قبله كما يأتي ولا معنى للإعذار حينئذ إلا سؤال أهل العلم عن فصول الوثيقة وشروطها أو تجريح شهودها ونحو ذلك، وفهم من قول الناظم: وخصم الخ، إن الشاهد إذا غلط في شهادته لا يلقن. قال في التبصرة: إذا غلط الشاهد في نص الشهادة فعلى القاضي أن يأمر الخصمين بالإعراض عنه لا المدعي بتلقين ولا المدعى عليه بتوبيخ، فإن فعل أحدهما ذلك بعد النهي أمر بأدبه. وكان سحنون إذا غلط الشاهد عنده أعرض عنه وأمر الكاتب أن لا يكتب وربما قال له: تثبت ثُمَّ يردده، فإذا ثبت على شهادته أمر كاتبه بكتب لفظ شهادة من غير زيادة ولا نقصان.
ومُنِعَ الإفْتاءُ لِلحُكَّامِ ** في كلِّ ما يَرجِعُ لِلْخِصامِ

(ومنع الإفتاء للحكام) متعلق بالإفتاء أو بمنع، واللام بمعنى من على كل حال (في كل ما) شيء (يرجع للخصام) فيه بين يديه من أبواب المعاملات لأن الخصم إذا عرف مذهبهم تحيل إلى الوصول إليه أو الانتقال عنه وما ذكره من المنع هو أحد الأقوال ومحلها فيما إذا كان مجتهداً أو مقلداً. وفي المسألة قولان متساويان مثلاً وإلاَّ فيجوز لأنه محجر عليه في الحكم بغير المشهور كما مرّ، وفيما قبل الجلوس بين يديه وإلاَّ فهو ما قبله فلا معارضة بين البيتين، وفيما يمكن فيه الخصام بين يديه كما قررنا لا أن سئل عن ذلك من خارج ولايته أو من بعض الكور أو على يدي عماله أو كان لا يرجع للخصام كالعبادات فلا يكره ولا يمنع ومقابل المنع الكراهة لمالك وهو المشهور، والجواز لابن عبد الحكم وبه العمل قال ناظمه:
وشاع إفتاء القضاة في الخصام ** مما يغير حكمهم له قوام

ومفهوم للحكام أن غيرهم له الإفتاء مطلقاً وهو كذلك. ابن العربي: المصلحة أن تكون الفتوى مرسلة ولا تكون الشهادة إلا إن ولاه القاضي لأن المفتي إذا زاغ فضحه العلم (ق): إن كان القضاة مولين بالجاه لا بالمرجحات الشرعية ففتوى المفتين حينئذ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي البرزلي ونحوه في المعيار: لا ينبغي للفقيه المقبول القول أن يكتب للقضاة بما يفعلون إلا أن يسألوا لأن ذلك يؤدي إلى الأنفة المؤذية، قال: وقد أدركت بعض شيوخنا إذا ورد عليهم سؤال فيه حكم قاض من بعض الكور يرده حتى يبعث إليه قاضيه. اهـ.
قلت: وهذا إذا كان ممن توفرت فيه شروط القضاء لأنه محمول حينئذ على أنه استقصى الواجب في ذلك وإلاّ فهي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما مرّ. ورأيت في اختصار الونشريسي للبرزلي ما نصه: لا يجوز للقاضي إقامة المفتي ليستفتيه وإنما يقيمه أهل الحل والربط وهم الفقهاء قاله المازري. اهـ.
وهو ظاهر لا يختلف فيه اثنان، وفي نوازل التمليك من المعيار أن فقيه سوسة أتى الربيع المزدغي بفتوى من قال: الحلال عليه حرام بلزوم الواحدة، وأمر حاكم البلد أن يحكم بذلك ليتحصن بحكم الحاكم، وحمله على ذلك كون الرجل له أولاد من زوجته، فبلغ الخبر إلى أبي القاسم فأفتى بنقض الحكم وإلزامه الثلاث قائلاً لا يعتبر من قضاة الوقت إلا الحكم بالمشهور، ولا يعول إلا على مفتي تونس بإفريقية. قيل: هذا تعسف منه بل كل من يعرف العلم وإن كان في بادية يعول على فتواه إذا رآه الناس أهلاً لذلك كهذا الشيخ المزدغي نفع الله بعلمه وعمله. قلت: أي قال صاحب المعيار: حكى الأصوليون الإجماع على استفتاء من علم بالعلم والعدالة، وقد انتهى الأمر في هذه الأزمنة إلى خرق هذا الإجماع وقصرها على جهلة لمجرد الرياسة والجاه وحسيبهم الله. اهـ.
قلت: قد انتهى الأمر في زماننا هذا في حدود الثلاثة والأربعين بعد المائتين والألف وقبل ذلك بسنين إلى قطعها بالكلية موافقة لأغراض جهلة القضاة ويعللون ذلك بأن في إرسالها تشويشاً عليهم في الأحكام، وما ذاك إلا ليتوصلوا للأغراض الفاسدة من تمام الرياسة وعدم نقض أحكامهم المؤسسة على الحدس والتخمين، وإلاَّ فالمفتي إن صادف الصواب بفتواه وإلاَّ ألغيت وطرحت فأي تشويش فيها؟ فبقي الناس يموج بعضهم في بعض فتأتي النوازل من سوس الأقصى وغيرها ولا يجدون من يكتب لهم حرفاً واحداً لا من القضاة لغلبة جهلهم ولا من غيرهم للتحجير عليهم من الإمام مع أنها فرض كفاية كالقضاء، فهذا من أفظع الأمر الذي لا يحل السكوت عليه قال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات} (البقرة: 951) الآية. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وَفي الشُّهُودِ يَحْكُمُ القاضي بِما ** يَعْلَمُ مِنْهُمْ باتِّفاقِ العُلَمَا

(وفي الشهود): يتعلق بقوله: (يحكم القاضي) وكذا قوله: (بما يعلم منهم) من تعديل أو تجريح إجماعاً وعليه فلا تحتاج لدليل لأن الإجماع لابد له من دليل يستند إليه وإن لم نطلع عليه، وقيل لغلبة شهرة العدالة والتجريح عند الناس فضعفت التهمة، وقيل: لو لم يستند لعلمه فيهما لافتقر لمعدلين آخرين فيتسلسل. وتعقب بانقطاعه بمشهور العدالة. وأجيب: بأن انقطاعه بذلك نادر والتعليل الثاني أظهر لما يأتي، وظاهر النظم أنه يعمل على ما علم من التجريح ولو عدله آخرون وهو كذلك (باتفاق العلما) إلا ابن المواز قال: تقدم بينة التعديل على علمه بالتجريح، ورده ابن عبد البر بالإجماع إلا أن يطول زمن ما بين علمه بجرحته وبين الشهادة بتعديله فيعمل على التعديل قاله أصبغ وابن عبدوس عن ابن القاسم، وأما العكس وهو أن يعلم العدالة ويجرحه آخرون، فالحق أنه لا يعمل فيه على علمه لأن غيره علم ما لم يعلمه إلا أن يتحقق نفي السبب الذي جرحوه به كما لو جرحوه بشرب الخمر وقت كذا وهو يعلم أنه أكره عليه (خ) بخلاف الجرح وهو المقدم، وليس عليه أن يشهد بما علمه منهم عند غيره كما في التبصرة وكذا يستند للشهرة بالجرحة والعدالة، فقد شهد ابن أبي حازم عند قاضي المدينة فقال: أما الاسم فاسم عدل، ولكن من يعرف أنك ابن أبي حازم. ابن عرفة: شهد البرقي فقيه المهدية في مسيره للحج عند قاضي الاسكندرية، فلما قرأ اسمه قال: أنت البرقي فقيه المهدية؟ قال: نعم فكلف المشهود له البينة على أنه هو وحكم بشهادته دون طلب تعديله، ثُمَّ محل كلام الناظم ما لم يقر الخصم بعدالة الشاهد، وإلاّ فيحكم عليه بشهادته ولو علم جرحته أو شهدت البينة بها خلافاً لأصبغ وسواء أقرّ بها قبل الأداء أو بعده لأن إقراره بالعدالة كالإقرار بالحق، ففي البرزلي: إن بعضهم كان إذا شهد عنده من لا يرتضيه يتلطف في رد شهادته والعمل بإقرار المطلوب فيقول: ما تقول في شهادة فلان. فيقول؟ هو عندي صادق أو شهادته صحيحة. اهـ.
(خ) أو إقرار خصم بالعدالة وظاهر التعليل أنه يحكم عليه، ولو رجع عن إقراره وكان الشاهد واحداً من غير يمين الطالب، مع أن ابن عرفة بحث في هذه المسألة بما يعلم بالوقوف عليه. وقال ابن عبد السلام: ينبغي أن يتأول على ما إذا أقر بعدالته بعد أداء الشهادة لا قبلها لأنهم قالوا: إذا قال أحد الخصمين كل ما شهد به على فلان حق فشهد عليه أنه لا يلزمه لأنه يقول: ظننت أنه لا يشهد إلا بحق. ضيح: وفرق بينهما بأنه إذا أقر بعدالته أي بأمر متقدم يعلمه منه بخلاف من التزم ما يشهد به لأنه يقول: ظننت أنه لا يشهد إلا بحق. اهـ.
فتأمل هذا الفرق فإن كان معناه أن الإقرار بالعدالة كان بعد علمه بما شهد به عليه كان ذلك قبل الأداء عند القاضي أو بعده كما يدل عليه التعليل من أنه كالإقرار بالحق فهو ما يقوله ابن عبد السلام لأنه مراده بالأداء، وإن كان المراد أنه أقر بها قبل أن يعلم بشهادته فلا يخفى أنه لا فرق بينه وبين قوله: كل ما شهد به فلان حق إذ لا يقول ذلك حتى يكون فلان عدلاً عنده، وقد قالوا: إنه لا يكون بمجرده إقراراً، ولكن ينظر إن كان فلان عدلاً لزمته شهادته مع يمين الطالب، وإلاَّ فلا هذا محصل قول (خ) في الإقرار كأن حلف في غير الدعوى أو شهد فلان الخ، أي فلا شيء عليه، ولو حلف أو شهد لأنه يقول: ظننت أن لا يحلف على الباطل وأن لا يشهد به. ابن سهل: هذا إذا أنكر ذلك حين شهد عليه أما إذا سكت حين الشهادة ثُمَّ رجع لم يكن له ذلك، وهذا الأصل في كل من التزم ما لا يلزمه بحكم. اهـ.
ثُمَّ يبقى النظر هل يعذر فيه للمشهود عليه إن كان عدلاً أو لا لأنه قد سلم شهادته؟ قولان. والمعتمد الأول لأنه يقول: ظننت أن لا يشهد بل في معاوضات المعيار في رجل شهدوا عليه فجرحهم ثُمَّ رضي بشهادتهم وقال: كل ما شهدوا به علي جائز فشهدوا عليه بذلك الحق، فأراد أن يقدح فيهم وقال: ظننت أنهم يرجعون إلى الحق أنه يمكِّن من القدح فيهم بعد أن يحلف أنه ما أجاز شهادتهم إلا ظناً بهم أنهم يرجعون للحق.
تنبيهات:
الأول: ما مر من عدم لزوم الإقرار في هذه المسألة هو المشهور. وقال مطرف: ذلك لازم له، وثالثها أن تحقق ما نوزع فيه لم يلزمه وإلا لزمه وسواء في هذه الأقوال كان الشاهد عدلاً أو فاسقاً أو نصرانياً، وينبغي أن يقيد عدم اللزوم على المشهور بما إذا قال ذلك قبل أن يعرف بما في ذلك من الخلاف وإلا فتلزمه شهادته لأنه التزم قول قائل من أهل العلم وأراح الحاكم من النظر في مسألته قاله أبو الضياء. مصباح في النوازل المذكورة قال: وعليه يدل قول مالك في ضمان الغائب أنه ممن اشترط عليه الضمان من المتبايعين ورأى أن ذلك التزام لأحد القولين وبه العمل. اهـ.
الثاني: لو عدل شخص رجلاً فشهد عليه بحق فذلك لازم له فإن أراد تجريحه بما حدث من القواد (ح) فيه بعد تعديله، فالظاهر تمكينه من ذلك، وانظر هل له ذلك بالقواد؟ (ح) التي قبل التعديل لأنها قد تخفى عليه حين التعديل أم لا؟ فإن شهد المعدل بالفتح بجرحة الأصل أو عدل القاضي شهوداً فشهدوا بجرحته فلا يقبل تجريحهم لأن القدح في الأصل قدح في الفرع قاله البرزلي. وأصله لابن رشد قال: ونظيره الرجل يتوفى وله أمة حامل وعبدان ويرثه غاصب فيعتق العبدين وتلد الأمة ذكراً فيشهد العبدان بعد عتقهما أن الأمة كانت حاملاً من سيدها المتوفى فإن شهادتهما لا تجوز لأنها تؤدي لإبطال عتقهما فيؤدي إلى إجازة شهادة العبد. اهـ.
الثالث: لو رضي ذمي بشهادة مثله فقضى عليه حاكمهم بها فقال ابن الماجشون: له الرجوع وينقض الحكم قاله في الشامل.
وفي سِوَاهُمْ مالِكٌ قَدْ شَدَّدَا ** في مَنْعِ حُكْمهِ بِغَيْرِ الشُّهَدَا

(وفي سواهم) أي الشهود أي تعديلهم وتجريحهم (مالك) مبتدأ (قد شددا) خبره وفي سواهم يتعلق به وكذا قول (في منع حكمه) و(بغير الشهدا) متعلق بمنع فلا يحكم بما علمه قبل ولايته ولا بما علمه بعدها وقبل جلوسه للحكومة أو بعد الجلوس وقبل أن يجلسا للحكومة مثل أن يسمعهما أو أحدهما يقر للآخر، فلما تقدما للحكومة أنكر وهو في ذلك كله شاهد عند اللخمي وابن محرز وغيرهما، وقيل تقبل شهادته في ذلك كما لم يمض حكمه فيه فإن حكم بعلمه في شيء من ذلك نقضه هو وغيره إما اتفاقاً. في الأولى أو على المشهور فيما عداها (خ): أو بعلم سبق مجلسه (تت) ينقضه هو وغيره واستظهر ابن عبد السلام عدم نقضه مراعاة لمن أجاز له الحكم بعلمه مطلقاً كأبي حنيفة فقول (ق) ينقضه هو فقط على المشهور فيه نظر، ففي الشامل مشبهاً بما ينقضه هو وغيره، وكذا يعلم سبق مجلسه على الأصح إلخ.
ونحوه في النوادر ونقله (ح) عند قول (خ) وإن أنكر محكوم عليه إلخ.
وكذا نص عليه في الجواهر، فإن كان الإقرار بعد جلوسه للحكومة وتقدمهما إليه فقال مالك وابن القاسم، وهو المشهور: لا يحكم حتى يشهد عليه عدلان وعليه العمل كما في ابن سلمون والمفيد وغيرهما، وعليه فإحضار الشهود وقت جلوسه للحكومة واجب. وقال أصبغ وسحنون ومطرف وابن الماجشون: يجوز له أن يحكم عليه وعليه فإحضار الشهود مستحب، وتمسكوا بقوله عليه السلام: (إنكم لتختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع) الحديث. إذ لم يقل على نحو ما ثبت عندي، وبه أخذ منذر بن سعيد القاضي قال بعض الموثقين: ولم تزل القضاة تسقط في سجلاتها إثبات إقرار المقر وإنكار المنكر يعني عملاً بما لسحنون وعليه عول الناظم فقال:
وَقَوْلُ سَحْنُونٍ بِهِ اليَوْمَ العَمَلْ ** فِيما عَلَيْهِ مَجْلِسُ الحُكْم اشْتَمَلْ

وفي البرزلي قبيل النفقات: إن حكم القاضي بعلمه إنما يمنع فيما لم تكن فيه شهرة وإلا جاز ثُمَّ الخلاف المذكور في الإقدام على الحكم ابتداء أي: هل يقدم على الحكم بما سمعه ابتداء قبل الإشهاد عليه أم لا؟ وعلى الأول يحكم ولو أنكر وعلى الثاني الذي هو المشهور لا يحكم إلا إذا استمر. هكذا قرر الشيخ طفي هذا الخلاف قائلاً إن محله إذا أنكر قبل أن يحكم عليه، واستدل له بكلام اللخمي وابن رشد وغيرهما. قال: أما إذا استمر فمحل اتفاق أنه يحكم عليه، وظاهر (ح) و(عج) أن الخلاف عام استمر أم لا، فإن أنكر بعد الحكم فهو قول (خ) وإن أنكر محكوم عليه إقراره بعده لم يفده الخ، فمفهوم الظرف أنه إذا أنكر قبل الحكم فيفيده ولا يحكم عليه حينئذ على قول ابن القاسم، فإن حكم عليه فانظر هل يترجح النقض لأنه مقر بأنه استند في حكمه بعد الإنكار إلى علمه السابق عليه وهو ما يفيده الظرف المذكور أو ينقضه هو ولا ينقضه غيره، وهو قول ابن الحاجب. وأما ما أقرّ به في مجلس الخصومة فلا ينقض وهو الظاهر لقولهم ورفع الخلاف، لكن الجاري على ما للمتأخرين من أن القاضي محجور عليه الحكم بغير المشهور أن ينقضه هو وغيره. والحاصل أن استمرار إقراره وعدمه لا يعلم إلا من قول القاضي وإلا خرجنا عن موضوع المسألة فصار إذا قال القاضي استمر على إقراره حتى حكمت عليه ولم يفده إنكاره، وإن قال: حكمت عليه بعد الإنكار فتقدم أنه ينقضه هو ولا ينقضه غيره اللخمي: اختلف إذ أقر بعد أن جلس للخصومة، ثُمَّ أنكر فقال ابن القاسم: لا يحكم عليه، وقال عبد الملك وسحنون: يحكم ولذلك قصداه وإن لم ينكر حتى حكم ثُمَّ أنكر هذا الحكم. وقال: ما كنت أقررت بشيء لم ينظر لإنكاره، وهذا هو المشهور من المذهب وقال الجلاب: لم يمض عليه حكم الحاكم إلا ببينة يعني على إقراره وهو أشبه بقضاة الوقت لضعف عدالتهم قال: ولا أرى أن يباح القول الأول لأحد من قضاة الوقت. اهـ.
وما للجلاب نحوه لأبي بكر بن عبد الرحمن قال في مسائله حسبما في المتيطية أن قول ابن القاسم أصح لفساد الزمان، ولو أدرك عبد الملك وسحنون زمننا هذا لرجعا عما قالا، ولو أخذ الناس بقوليهما لذهبت أموال وحكم عليهم بما لم يقروا به. اهـ.
ونقله في التبصرة ونحوه قول ابن سهل: لو أدرك سحنون زمننا هذا لقال يقول ابن القاسم في كون الحاكم لا يستند لعلمه فيما أقرّ به أحد الخصمين بين يديه. اهـ.
قال وقوله عليه السلام: (فأقضي له على نحو ما أسمع) إلخ.
مؤول عند ابن القاسم أي إذا شهد بذلك عندي ابن المواز ولا خلاف أعلمه بين أصحاب مالك في كون القاضي لا يقضي بما سمعه في مجلس قضائه وقاله مالك بن سهل. ولقد صدق ابن المواز في قوله: أعلمه لأنه لم يعلم قول ابن الماجشون وغيره بأنه يقضي بما سمع المتيطي: لم تزل القضاة بالأندلس تسقط في سجلاتها ثبوت إقرار المقر وإنكار المنكر من الخصمين حتى تولى أحمد بن تقي القضاء بقرطبة فأحدث في سجلاته أنه ثبت عنده إقرار المقر وإنكار المنكر، وهو مذهب ابن القاسم وأشهب، وبه عملت القضاة بعده، وقال مطرف وابن الماجشون: ما أقر المقر به المقرّ بين يديه يؤاخذ به ولذلك جلس ليلزم كل واحد منهما مقالته يعني بغير إثبات ثُمَّ ذكر ما مر عن أبي بكر بن عبد الرحمن. وقال المازري: من الحكمة والمصلحة منع القاضي الحكم بعلمه خوف كونه غير عدل فيقول علمت فيما لا علم له به. اهـ.
فتعليلهم بما ذكر يدل على أنهم فهموا قول ابن القاسم على ما فهمه الجلاب من أنه لا يحكم عليه ولو استمر على إقراره وإن فعل فهو مردود وهو ما فهمه ابن القصار والقرافي وغيرهما قال القرافي في قواعده: القضاء بعلم الحاكم عندنا وعند ابن حنبل يمتنع لوجوه أنه عليه السلام قال: (شاهداك أو يمينه ليس لك إلاَّ ذاك). فحصر الحجة في البينة واليمين دون علم الحاكم وهو المطلوب، وإن الحاكم غير معصوم فيتهم في القضاء بعلمه على عدو أو صديق ونحن لا نعرف ذلك فحسبنا ذلك صوناً لمنصب القضاء عن التهم، وأن ابن عبد البر قال في الاستذكار: اتفقوا على أن القاضي لو قتل أخاه لعلمه بأنه قاتل ولي خصمه أنه كالقاتل عمداً لا يرث منه شيئاً للتهمة في الميراث فقيس عليه بقية الصور بجامع التهمة اه بحذف ما لم يتعلق به غرض، فهذا يدل على أن مالكاً وابن القاسم وأشهب يقولون: لا يحكم بعلمه ولو مع استمرار المقر إذ التهمة لا تنتفي بذلك، وأيضاً قضاؤه بعلمه السابق على مجلسه إنما منع للتهمة فكذلك ما كان بمجلسه إذ الكل لا يعلم إلا من قوله كما مر فأما أن يقال بالجواز في الجميع كما عليه الحنفية أو بالمنع في الجميع كما عليه الإمام وابن القاسم، ويدل لهذا ما يأتي من الخلاف في الإعذار في شاهد المجلس إذ لو كان يمضي حكمه مع الاستمرار ما قال قائل بوجوب الإعذار فتأمل ذلك، فهذا كله يضعف ما مر عن (خ) ويقوي ما مر عن الجلاب ومن معه ولهذا رجحه غير واحد من المتأخرين. قال في أقضية المعيار: الذي عليه العمل أن لا يحكم الحاكم بعلمه ولا ينفذه إلا بعدلين وعليه فلا يقبل قول القاضي شهد عندي بكذا أو أعذرته إلى فلان أو أجلته أو عجزته إلا ببينة، ومنه قوله: رفع على خطهما عدلان فقبلا بل لابد من تسميتهما والإعذار فيهما، وأحرى لو قال عرفت خطهما أو قال: ثبت عندي جرحتهما ولم يعين المجرح كما يأتي في البيت بعده وما لابن رشد وابن بطال: مما يخالف هذا حسبما في التبصرة وهو الذي أشار له (خ) بمفهوم قوله: ولا تقبل شهادته بعده أنه قضى بكذا كله لا يعول عليه، وسواء كان على وجه الخطاب أو الشهادة كما لابن رحال وغيره وسيأتي في فصل مسائل من أحكام البيع أن ما للخمي هو المعمول به قاله ابن حجر أيضاً والتالي وعليه فلو قال الناظم:
والقاضي لا يقضي بلا عدل على ** إقرار خصمه لديه مسجلا

كقولك أجلت في الإعذار ** وينقض الحكم على المختار

وَعَدْلٌ إنْ أَدَّى على ما عِنْدَهُ ** خِلاَفُهُ مُنِعَ أنْ يَرُدَّهُ

(وعدل) المراد به الجنس فيشمل الواحد فأكثر وهو مبتدأ وسوغ الابتداء به الشرط الذي هو (إن أدى) أي شهد لأنه في معنى الصفة أي مؤد (على ما) شيء يتعلق بأدى وقوله (عنده) أي القاضي (خلافه) جملة من مبتدأ وخبر صفة لما وقوله (منع أن يرده) جواب الشرط والشرط وجوابه خبر المبتدأ أي منع أن يرد شهادته وإن كان يعلم خلافها كأن يشهدوا بتعمير ذمة وهو يعلم أن ذلك صوري فقط ونحو ذلك لأنه يؤدي إلى الحكم بعلمه بإسقاط حق القائم بشهادة العدل.
وَحَقُّهُ إنَّهَاءُ ما في عِلْمِهِ ** لِمَنْ سِواهُ شاهداً بحُكْمِهِ

(وحقه) أي القاضي العالم خلاف ذلك وهو مبتدأ خبره قوله (إنهاء ما في علمه) أي رفع شهادته (لمن سواه) من القضاة وولاة السوق والأمراء، ولمن حكمه الخصمان حال كون القاضي (شاهداً بحكمه) أي في رتبة الشاهد فينزل عن رتبة القاضي وحكمه إلى رتبة الشاهد وحكمه قال في التبصرة: وإذا شهد عند القاضي شهود عدول بما يعلم خلافه فلا يحل له أن يقضي بشهادتهم ويدفع الخصمين عن نفسه، ويكون شاهداً عند من يتحاكمان إليه ذكره ابن العطار. وقال ابن المواز: إذا شهد العدول عند القاضي بشيء يعلم أنه باطل فلا يجوز له أن ينظر شهادتهم وينفذها بعد الانتظار اليسير قال: وأرى أن يعلم الذي حكم عليه أن له عنده شهادة تناقض ما شهدوا به إلخ.
وهو يفيد أنه ينفذها، وإذا أنفذها لا ينقض حكمه، ولكن يخبر المحكوم عليه بما في علمه، وعن سحنون أنه لا ينفذها لأنه قال: لا يجوز لي أن أحكم بشهادتهما ولا أن أردها لظهور عدالتهما ولكن أرفع ذلك لمن فوقي وأشهد بما علمت وغيري بما علم، وكذا لو شهد القاضي في قضية مع شاهد آخر لا يستقل الحكم به فإنه يرفع ذلك لمن فوقه، ثُمَّ هل يجوز أن يشهد ولو عند من تحته من نوابه أو لا يجوز له ذلك لأنه كأنه شهد عند نفسه قولان، وعلى الثاني اقتصر أبو الحسن قال: يرفع القضية إلى من فوقه ويشهد عنده ولا يحكم في ذلك بعلمه ولا يقدم من يؤدي عنده لأن مقدمه كهو على ما لا يخفى. اهـ.
وهذا في غير السلطان الأعلى يشهد عند قاضيه وإلا فيجوز على ما به العمل كما في المتيطية فإن كان المرفوع إليه بعيداً بحيث لا يلزم الرافع الأداء منه فله أن يشهد على شهادته عدلين وينقلانها عنه، وأفهم قوله عدل أن هذا في ظاهر العدالة المشهور بها كما في النقل كان منتصباً للشهادة أم لا سواء قدمه هذا القاضي لها أو غيره ممن قبله وسواء زكي عنده أم لا. إذ قبول من قبله لشهادته وحكمه بها يوجب عليه قبولها دون تزكية ولا معرفته بعدالته كما لابن رشد في أجوبته فإن كان مجهول الحال فهو ما مر في قوله: وفي الشهود يحكم القاضي إلخ.
إذ لا تهمة تلحقه في عدم قبوله، وظاهره أنه لا يردها بعلمه الجرحة بالأحرى وهو كذلك، وإلاَّ أدى إلى إبطال حق القائم في ردها بعلمه وما مر من أنه يستند لعلمه في التجريح إنما هو في غير المنتصب للشهادة أو في المنتصب لها بالنسبة لتأخيره عنها في المستقبل لا بالنسبة لإبطال الحقوق فيما مضى لأنه تصير الأحكام حينئذ دائرة على علم القاضي فمهما أراد إثبات حق أو إبطاله قال: إن شاهده معدل أو مجرح ولذا علل جواز استناده لعلمه فيهما بما إذا اشتهر عند الناس كما مرّ وقد قال ابن عرفة في قاض آخر شاهداً عن الشهادة فأتى من بعده ورده إلى الشهادة وتبطلت حقوق كثيرة بسبب التأخر المذكور مع أنه لم يجرحه أحد من القضاة عدا من ذكر فإنه يجب البحث الآن عن حال الشاهد المذكور فإن تحصل عند من له الأحكام جرحته أو عدالته عمل على ذلك، وإن لم يتحصل له شيء أمضى شهادته. البرزلي: إنما اختار البحث المذكور لغلبة الهوى على القضاة، وإلاَّ فالرواية إذا تقادمت جرحة الشاهد وكانت ثابتة عند القاضي ومضى لها أشهر، ثُمَّ أتى من زكاه بعد ذلك أنه يقبله ويحمل على انتقاله إلى خير اه، وذكر في نوازل الأيمان أن التجريح لا يصلح بأمر محتمل، وقد قالوا في استفسار اللفيف ونحوه لابد أن يكون بمحضر عدلين فراراً من أن يكون حكم بعلمه لأن اللفيف غير عدول، فإذا رتب الحكم على أدائه الذي غاب عليه ولم يعلمه غيره فقد رتبه على علمه قاله ابن لب والمكناسي وغيرهما. وقال ابن الحاجب: ولو سأله ذو الحق عن المجرح فعلى الحاكم إخباره به المتيطي: من حق الشاهد والمشهود له أن يعلما بالمجرح، فقد تكون هناك عداوة أو قرابة يمنعان التجريح، واختلف إذا كان الشاهد والمشهود له ممن يتقى شره فقال سحنون: يعلم، وقال ابن القاسم: إذا قال المجرح أكره عداوة الناس جاز التجريح سراً اللخمي: وقول سحنون أحسن لفساد القضاة اليوم ابن رحال في شرحه: وما قاله اللخمي حسن غاية لأنه إذا كان ذلك في قضاة زمانه فكيف بقضاتنا اليوم؟
قلت: وما لسحنون مثله لابن حبيب قال: التجريح لا يكون إلا علانية إذ لابد من الإعذار في شهادة المجرحين، وهذا التعليل يوجب أن لا يقبل التجريح سراً من قضاة الوقت كان المشهود له ممن يتقى شره أم لا وما لابن عبد السلام من قبوله سراً على أظهر القولين ونحوه لشراح المختصر مبني على نفي التهم عن القضاة، ومذهب المدونة يجوز لمن يخشى منه كما يأتي في فصل الإعذار وقد تقدم عن القرافي وابن سهل وغيرهما ضعفه وهذا كله في غير المشهور بالعدالة المنتصب لها، وأما ما عمت به البلوى في هذا الزمان من كون القاضي ينصب شهوداً أو يجدهم منتصبين ويقرهم على ذلك، ثُمَّ بعد تحملهم للحقوق من ديون وغيرها يظهر له تأخيرهم عنها، ويبطل رسوم تلك الحقوق كلها ويعتل بأنه يستند لعلمه في التجريح وإن الجرحة إذا طرأت بعد الأداء فهي مؤثرة فكيف بها قبل الأداء لأن العبرة بزمن الأداء فلا أخالهم يختلفون في عدم قبول قوله بالنسبة لما مضى إذ ليس قبول قوله بالتجريح الآن بأولى من قوله بالتعديل أو لا بالنسبة لما شهدوا به من الديون وغيرها، لأنه قد استند إلى علمه في إبطال تلك الحقوق بعد وجوبها لأربابها بتعديله الأول وهو من التلاعب بحقوق المسلمين وفي ضيح ما نصه: فإن استحق الشاهد الحر برق لم ترد شهادته لأنه قد لا يعرف غيره الحق المشهود به. اهـ.
ونقله (ز) وغيره أول الشهادات وهو صريح فيما قلناه، وفي المعيار قد شاع وذاع عن القضاة عزل بعض من لا يستحق العزل وتقديمهم لمن لا يصلح تعديله لهواه أو لكونه قريبه أو صديقه أو صهره أو لمعروفه عليه، وذلك كله من الهوى والفساد أعاذنا الله من ذلك. وتقدم عن البرزلي الرواية إذا تقادمت جرحة الشاهد إلخ.
وأشار به إلى قول أصبغ: إذا علم القاضي جرحته وقت الشهادة أو بقرب ذلك عمل عليها وأما إن طال الزمان، فهذا بمنزلة من جهل حاله إذا عدل عنده قبله يعني وبالعكس، ولذا قال اللخمي في تعارض بينتي التعديل والتجريح في مجلسين متغايرين قضى بشهادة الجرح لأنها زادت علماً في الباطن، وإن تباعد ما بين المجلسين قضى بأحدثهما تاريخاً، ويحمل على أنه كان عدلاً ففسق أو فاسقاً فعدل إلخ.
والمقصود منه قوله: وإن تباعد إلخ.
وبهذا كله تعلم أن قول (خ) عاطفاً على المبطلات لا إن حدث فسق بعد الأداء مقيد بما إذا حدث وقت الشهادة أو قربها وإلاَّ فهو من الاستصحاب المعكوس وهو ضعيف عند الأصوليين وخلاف الرواية كما ترى، ولذا قالوا: إذا قام للصبي شاهد واحد حلف المطلوب وسجلت شهادته لئلا يطرأ فسقه كما يأتي، ولا يقال تسجيل شهادته بمنزلة الحكم بها وطرو الفسق بعد الحكم غير مضر لا يقتضيه كلام (ز) لأنا نقول هذا يقتضي أن الشاهد للصبي إذا رجع بعد تسجيلها وكتبها يغرم وليس كذلك لأنه لا حكم أصلاً إذ الحكم يتوقف على يمين الصبي بعد البلوغ، وإذا ثبت هذا الحكم في الشاهد للصبي فكذلك الشاهد لغيره لا يضر طرو الفسق له بعد، وبما إذا كانت الشهادة استرعائية لا أصلية كما يأتي عند قول الناظم: وزمن الأداء لا التحمل، وبما إذا كان الطارئ مما يخفى كالزنا ونحوه لا كالقتل والعداوة كما للخمي والمازري قال في ضيح عند الكلام على شهادة النقل وهو كلام صحيح، وبما إذا ثبت الفسق لا بالتهمة عليه كما لشراحه والله أعلم. وهذا في الحقيقة من تعارض التعديل والتجريح وسيأتي بقية الكلام عليه في محله إن شاء الله تعالى.
تنبيه:
إذا تقرر ما تقدم وعلمت أن التأخير عن الشهادة لدعوى القاضي جرحته لا يبطل الحقوق التي كان شهد بها قبل ذلك ومات هذا المؤخر أو غاب قبل أدائها فإنه يرفع على خطه ويقولون مثلاً كان متصفاً وقت تاريخ الرسم أعلاه بقبول الشهادة، ولا زال على ذلك إلى أن أخر عنها لغير موجب في علمهم.
وعِلْمُه بِصِدْقِ فِي غَيْرِ العَدْلِ لاَ ** يُبيحُ أنْ يَقْبَلَ مَا تَحمَلاَ

(وعلمه) أي القاضي (بصدق غير العدل) يشهد عنده ظاهره كان ظاهر الجرحة أو مجهول الحال. وهو كذلك لأنه محمول عليها (لا يبيح) له (أن يقبل ما تحملا) غير العدل والجملة خبر عن قوله علمه وبصدق يتعلق به، وإنما لم يصح له قبوله لأنه آيل إلى الحكم بعلمه وسبب لتطرق التهمة إليه لأن غير العدل كالعدم فرد شهادته حق لله ولذا قال ابن عرفة: الحكم برد شهادة الفاسق حق لله ولو شهد بحق. اهـ.
وأيضاً لابد أن يقول في حكمه بعد أن صحت عندي عدالتهما وهو إنما صح عنده جرحتهما أو لم يصح عنده شيء، فإن وقع وحكم فينقضه هو وغيره (خ) عاطفاً على ما ينقض به الحكم أو أظهر أنه قضى بعبدين أو فاسقين ومفهوم صدق غير العدل أنه إذا علم بكذب العدل فهو ما قبله.
ومَنْ جَفا القاضِي فالتَّأدِيبُ ** أوْلى وَذَا لِشَاهِدٍ مَطْلُوبُ

(ومن جفا القاضي) أي لمزه بما يكره في مجلس حكمه فقال: ظلمتني مثلاً وأراد أذاه (فالتأديب) له أي التعزير إذا كان القاضي من أهل الفضل (أولى) من العفو عنه، وظاهره أنه يستند لعلمه في ذلك وهو كذلك، وقولي بمجلس حكمه احترازاً مما إذا كان ذلك بغيره فليس له ذلك ولو ثبت ببينة لأنه لا يحكم لنفسه في مثل ذلك ويرفعه لغيره إن شاء، وقولي لمزه احترازاً مما إذا صرح له بالإساءة فيجب التأديب حينئذ كما لابن عبد السلام. ونقله في التبصرة. وقولي: ظلمتني ليس من الصريح لإمكان أن يريد المجاز. ومن موصولة مبتدأ، والجملة من قوله: فالتأديب أولى خبره والرابط محذوف ودخلت الفاء في الخبر لأن الموصول لعمومه كالشرط.
(وذا) التأديب (لشاهد) أي لجفائه أو جفاء الخصم أو المفتي (مطلوب) أي واجب كأن يقول له شهدت عليَّ بزور أو ما أنت من أهل العدالة والدين، ولا يجوز العفو عنه حيث كان بالمجلس قامت به بينة أم لا. لانتهاكه حرمة الشرع فإن كان بغير المجلس وثبت ببينة فالحق حينئذ للشاهد ونحوه لا لله ويؤدب في ذلك كله بقدر الرجل المنتهك حرمته، وقدر الشاتم في إذاية الناس إلا أن يكون الشاتم من أهل الفضل وذلك منه فلتة فليتجاف عنه كما قال:
وفَلْتَةٌ مِنْ ذي مُرُوءَةٍ عَثَرْ ** فِي جانِبِ الشَّاهِدِ مِمَّا يُغْتَفَرْ

(وفلتة) مبتدأ سوغ الابتداء به وصفه بقوله: (من ذي مروءة) وقوله: (عثر) في موضع الصفة لذى أو في موضع الحال من فلتة لتخصيصه بالصفة والرابط محذوف أي بها و(في جانب الشاهد) يتعلق به ومثله من ذكر معه و(مما يغتفر) خبر المبتدأ (خ) وتأديب من أساء عليه أو على خصمه أو مفت أو شاهد لا بشهدت علي بباطل كخصمه كذبت إلخ.
ومَنْ ألَدَّ في الْخِصَامِ وانْتَهَجْ ** نهْجَ الفِرَارِ بَعْدَ إتْمَامِ الْحُجَجْ

(ومن ألد في الخصام) أي أكثر منه وهو اسم شرط أو موصول مبتدأ (وانتهج) معطوف على الصلة (نهج الفرار) مصدر نوعي أي سلك طريقه خوفاً من القضاء عليه وثبت ذلك عليه ببينة لا بقول الرسول فلا يخلو من ثلاثة أوجه فإن كان ذلك (بعد) الحضور بين يديه و(إتمام الحجج) التي يدلي بها وسؤاله عنها وعجزه عن الطعن في حجج خصمه بعد الإجالات والتلومات كما هو ظاهره فهذا.
يُنَفِّذُ الحُكْمَ عَليْه الْحَكَمُ ** قَطْعاً لِكُلِّ مَا بِهِ يَخْتَصِمُ

(ينفذ الحكم) بالنصب مفعول مقدم (عليه الحكم) بفتح الكاف لغة في الحاكم فاعل بقوله ينفذ (قطعاً) حال أي قاطعاً (لكل ما به يختصم) والجملة خبر من أو جوابه وسواء كان المتنازع فيه عقاراً أو غيره كما هو ظاهره وإن وجبت له يمين قضاء أو استحقاق وكل الحاكم من يقتضيها له ويشهد بذلك ولا تسمع له حجة يأتي بها بعد ذلك لأنه بمنزلة الحاضر وإن كان ذلك قبل نشب الخصومة أو بعد نشبها بين يديه وقيل استيفاء النظر فيها فهو قوله:
وَغَيْرُ مُسْتَوْفٍ لها إن اسْتَترْ ** لَمْ تَنقَطِعْ حُجَّتُهُ إذَا ظَهَرْ

(وغير مستوف لها) أي للحجج فيشمل من لم ينشبها بالكلية لأن السالبة لا تقتضي وجود الموضوع (إن استتر) أي دام استتاره بعد أن فعل القاضي به ما مر في قوله: ومن عصى الأمر ولم يحضر طبع. الخ، فهذا تسمع البينة في غيبته إن تغيب قبل سماعها على المذهب وإذا سمعت فيحكم عليه بمقتضاها كما يحكم عليه إن تغيب بعد أن سمعها وقبل استيفاء حججه ولا يقيم له وكيلاً على المعتمد، ومذهب ابن القاسم لأن الوكيل لا يعرف حجج الموكل، فالقضاء عليه وإرجاء الحجة أنفع له كما قال (لم تنقطع حجته) التي يأتي بها من الطعن في البينة التي لخصمه أو معارضتها ببينة البراءة ونحو ذلك (إذا ظهر) بعد أن قضى عليه وقيل يقام له الوكيل ولا ترجى له حجة فغير بالرفع مبتدأ ويجوز نصبه على الحال من ضمير استتر وجملة لم تنقطع خبر وجواب.
لَكِنَّما الحُكْمَ عَلَيْهِ يُمْضِي ** بَعْدَ تَلَوُّمٍ لَهُ مَنْ يَقْضِي

(لكنما) استدراك وما كافة (الحكم عليه) بالنصب مفعول (يمضي) بضم الياء مضارع أمضى ويجوز رفعه بالابتداء والجملة بعده خبره، والرابط محذوف أي يمضيه ويجوز قراءته بفتح الياء وضميره يعود على الحكم هو الرابط ومن يقضي فاعل المصدر في قوله: (بعد تلوم له) أي لغير المستوفي (من يقضي) فاعل يمضي على ضم يائه والضمير في تلوم يعود عليه فهو عائد على متأخر لفظاً لا رتبة، وظاهره أن الأول لا يتلوم له وهو كذلك لأن الغرض أنه فر بعده وظاهره أيضاً أن غير المستوفي لا تنقطع حجته، ولو قال لخصمه: إن لم أحضر معك عند القاضي في أجل كذا فدعواك حق ودعواي باطلة ونحوه، وهو كذلك كان طالباً أو مطلوباً (خ) كقوله: أجلني اليوم فإن لم أوافك غداً فالذي تدعيه حق، ومفهوم قوله: إذا ظهر أنه لا كلام لوارثه في نقض الحكم قبل ظهوره ولو طالت غيبته وهو كذلك لأن كل أمر يتوقف ثبوته وإبطاله على اختيار شخص فالحكم بالصحة والإبطال قبل علم ما عنده محال إذ قد يقدم فيقر بوقوع الحكم على الصواب، وظاهره إذا أتى بالحجة وعجز خصمه عن معارضتها يبطل الحكم وينقض البيع ويرد الغرماء ما أخذوه وهو كذلك قاله المازري ويأتي في فصل الحكم على الغائب ما يخالفه ولا مفهوم لقوله بعد تلوم لأنه إذا لم يتلوم ترجى له الحجة بالأحرى وأشعر قوله ينفذ، وقوله: يمضي أنه مستوطن في محل ولايته أو له مال ظاهر أو كفيل أو وكيل وإلا يكن شيء من هذه الأمور، فالحكم عليه كالحكم على من ليس في إيالته، وقد تقدم. 5 والحكم في المشهور حيث المدعى عليه وشمل قوله نهج الفرار ما إذا فرّ حقيقة أو حكماً كما لو مرض أو سجن وامتنع من التوكيل فيجري على التفصيل المتقدم قال في الشامل: وحكم من تعذر أو تغيب كالغائب فيتلوم له إن تغيب قبل استيفاء حججه ثُمَّ قضى عليه وترجى حجته وبعد استيفائها يقضى ولا حجة له. ومضى إن كان له مال ظاهر وإلاَّ ختم على بابه، فذكر ما مرّ عند قوله ومن عصى الأمر إلخ.
وقوله: تعذر أي بسبب تعصبه بذي جاه أو مرض أو سجن كما مرّ، ولابد من تسمية الشهود كما يأتي في فصل الحكم على الغائب.